الله العظيم القوي الذي لا نظير له، في القوّة والعظمة، هو نفسه الذي يحب البشر بطريقةٍ لا نظير لها، ولا وصف يدانيها.
القوّة الأعظم والحبّ الأعظم يلتقيان في شخص الله، هذا الذي أعلن عبر التاريخ عظمة صفاته وروعة وبهاء مجد جلاله. كيف تدرك أنّ إنساناً ما يحبّك حبّاً حقيقياً؟ الإجابة كامنة في فهم مقدار التنازلات التي يقدّمها هذا الإنسان مقابل هذا الحبّ. من يحبّ يتخلّى عن كلّ شيء، يضحّي بكلّ شيء، وإلّا فالحبّ يبقى مجرّد مفرداتٍ لا معنى لها ولا قيمة. لا يريد الله العظيم أن تكون العلاقة بينه وبين الإنسان علاقة “عبودية” أي علاقة السيّد بعبدِه.
فلو أراد الله أن يُخضع جميع الناس المتمردين الخطاة، لفعل ذلك في لحظةٍ في طرفة عين. فهو الله الخالق الذي يستطيع أن يفعل كل شيء، وهو المتحكّم بكلّ شيء. هو الذي يقول للأشياء أن تكون أو لا تكون، هو سيّد التاريخ وملك الملوك، هو الذي يعزل ملوكاً وينصّب ملوكاً، هو الإله الذي لا يستطيع أحد أن يجادله أو يسأله عن أقواله وأفعاله.
لكن الله أراد لعلاقتِه بالإنسان أن تكون مبنيّة على الحبّ وليس على القوّة. فعلى الرغم من أنّ الله يستحقّ العبادة لأنه ببساطة هو الله، لكنه ينظر الى الإنسان كونه على صورته، وبوصفه الأسمى والأثمن من العبد المقيّد بالسلاسل والحديد الذي يُعبد عن خوفٍ وهيبةٍ من قوّة معبوده.
وفي ليلة من الليالي، ظهر الله لأبينا إبراهيم في حلم الليل وقال له: “يا إبراهيم خذ ابنك إسحق وحيدك الذي تحبّه واصعد به إلى الجبل وقدّمه هناك ذبيحة محرقة.”
فلماذا يا ترى فعل الله ذلك؟ إنّ الله كونه خالق الكون وكلّ ما فيه، له الحقّ في أن يأمر إبراهيم بأن يذبح ابنه بدون اعتراض. فمن يستطيع أن يعترض على حكم الله وقوّته وجبروته؟
في طلبه من إبراهيم أن يقدّم إبنه، تظهر قوّة الله وسيادته وجلاله وسلطانه. فالله يجب أن يطاع حتى ولو كان الثمن حياتنا أو حياة أولادنا. لكنّ الله لا يريد أن يخضع له الإنسان بالقوّة، بل أراد أن يربحه بالمحبة. لذلك، حين أخذ إبراهيم إبنه ووضعه على المذبح وهمّ بأن يذبحه، ناداه صوت من السماء قائلاً: “لا تضع يدك على ابنك، وانظر وراءك وسوف ترى لك ذبيحة أخرى.” نظر إبراهيم إلى الخلف ووجد كبشاً، فقام بذبحه عوضاً عن ابنه.
ولكن لماذا فعل الله ذلك؟ لماذا طلب من إبراهيم أن يذبح وحيده إسحق، ثمّ تراجع فاستوقفه واستبدل الفتى بالكبش؟
الحقيقية أنّ قصّة الله مع إبراهيم كانت إشارة إلى ذبيحة عظيمة، تلك التي ستكون لفداء ليس “اسحق” فقط، وإنما لفداء أحبّاء الله الذين سقطوا من محضره يوم سقط آدم، أبو كلّ البشر. ولكن من المستحيل أن تكون الذبيحة العظيمة هي الكبش! لا يمكن أن يكون الفداء العظيم حيواناً بديلاً عن إبن إبراهيم، أو بديلاً عن أيّ إنسان! حينما يُراد فداء شيء ما، يجب تقديم بديل يملك القيمة عينها أو أكثر.
تلك هي الذبيحة العظيمة. وذلك الفداء الذي أراد الله أن يشير إليه من خلال قصّة إبراهيم، هو يسوع المسيح الذي جاء إلى العالم لكي يموت عوضاً عنّا.
يسوع المسيح هو التعبير المطلق عن محبّة الله للعالم.
ظهرت المحبة حينما جاء المسيح القويّ، وأصبح ضعيفاً بسبب محبّته لنا ومن أجلنا، ليس مضطراً بل بقرار أزلي منه. المسيح الحيّ الذي مات لكي نحيا نحن بعد أن انفصلنا عن الله، وكان مصيرنا الموت والهلاك الأبدي. جاء المسيح لكي يعيدنا إلى الله ويصالحنا به، ويبني الجسر الذي هدّمناه بخطايانا.
الكبش والذّبح والفداء هي أمور طلبها الله من الشعب اليهودي فيما مضى، أن يعبّروا عنها بتقديم ذبائح حيوانيّة. ولكن قصد الله كان إبنه الحبيب الذي سيموت من أجل البشر الخطاة. وهكذا، ظهرت محبّة الله للعالم، المحبّة التي لا يمكن وصفها، المحبّة التي قدّمها الله من أجلنا، الذي كان يستطيع إخضاعنا بالقوّة، ولكنه اختار سبيل المحبّة التي تفوق تصوّرات عقل الإنسان.